فصل: قال ابن عادل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210)}.
أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم الأمور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة فهو يتحول إلى هشيم تذروه الرياح، ويصير الإنسان أمام لحظة الحساب. وقوله: {هل ينظرون} مأخوذة من النظر. والنظر هو طلب الإدراك لشيء مطلق. وطلب الإدراك لأي شيء بأي شيء يسمى نظرا. ومثال ذلك أننا نقول لأي إنسان يتكلم في أي مسألة معنوية: أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الإدراك أم لا؟ إذن فالنظر هو طلب الإدراك للشيء، فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين، وإن طلبت أن تعرف وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب. وأحيانا يطلق النظر على الانتظار، وهو طلب إدراك ما يتوقع.
و{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله}، يعني هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في الزمن الخاص؟ لأنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام، فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات كبرى، ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى، أن ذلك دليل على أن الله يمهلنا لنتدارك أنفسنا، فلا يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها. وساعة نسمع قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} نقول: ما الذي يؤجل دخولهم في الإسلام كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك: ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا على الدخول في السلم كافة وإلا فماذا تنظرون؟
و{إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغيام والملائكة} ساعة تقول: {يأتيهم الله} أو {جاء ربك} أو يأتي سبحانه بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من الإتيان والمجيء وكالوجه واليد، فلتأخذه في إطار {ليس كمثله شيء} فالله موجود وأنت موجود، فهل وجودك كوجوده؟ لا. إن الله حي وأنت حي، أحياتك كحياته؟ لا. والله سميع وأنت سميع، أسمعك كسمعه؟ لا. والله بصير وأنت بصير، أبصرك كبصره؟ لا. ومادمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك، فتأخذها بالنسبة لله في إطار {ليس كمثله شيء}.
ولذلك يقول المحققون: إنك تؤمن بالله كما أعطاك صورة الإيمان به لكن في إطار لا يختلف عنه عما في أنه {ليس كمثله شيء}، وإن أمكن أن تتصور أي شيء فربك على خلاف ما تتصور، لأن ما خطر ببالك فإن الله سبحانه على خلاف ذلك، فبال الإنسان لا يخطر عليه إلا الصور المعلومة له، ومادامت صورا معلومة فهي في خلق الله وهو سبحانه لا يشبه خلقه. إن ساعة يتجلى الحق، سيفاجئ الذين تصوروا الله على أية صورة، أنه سبحانه على غير ما تصوروا وسيأتيهم الله بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبدًا؛ لأنه لو كانت صورة الحق في بال البشر لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره، وهو القادر لا ينقلب مقدورًا عليه أبدًا، ومن عظمته أن العقل لا يستطيع أن يتصوره ماديًا. ولذلك ضرب الله لنا مثلًا يقرب لنا المسألة، فقال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} سورة الذاريات.
إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة، وعاد بعد ذلك إلى عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد، هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها، أو تحديد مكانها أو شكلها، هذه الروح المخلوقة لله لم نستطع أن نتصورها، فكيف نستطيع أن نتصور الخالق الأعظم؟ {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله} يعني بما لم يكن في حسبانهم. هل ينتظرون حتى يروا ذلك الكون المنسق البديع قد اندثر، والكون كله تبعثر، والشمس كورت والنجوم انكدرت، وكل شيء في الوجود تغير، وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم. فماذا ينتظرون؟.
إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك الأمر، وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم وينهي أمد رجوعهم إلى الله. لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون أن يتغير الله؟ أو أن يتغير منهج الله؟ إن ذلك لن يحدث. ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئًا يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر فلنأخذه في إطار {ليس كمثله شيء}. فكما أنك أمنت بأن لله ذاتًا لا كالذوات، فيجب أن تعلم أن لله صفات ليست كالصفات، وأن لله أفعالًا ليست كالأفعال، فلا تجعل ذات الله مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في الصفات التي قال الله فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس، فإذا كان الله يجئ؛ فلا تتصور مجيئه أنه سيترك مكانًا إلى مكان، فهو سبحانه يكون في مكان بما لا يخلو عنه مكان، تلك هي العظمة.
فإذا قيل: {إلا أن يأتيهم الله} فلا تظن أن إتيانه كإتيانك، لأن ذاته ليست كذاتك، ولأن الناس في اختلاف درجاتهم تختلف أفعالهم، فإذا كان الناس يختلفون في الأفعال باختلاف منازلهم، وفي الصفات باختلاف منازلهم، فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور، ولنأخذ كل شيء يتعلق به في إطار {ليس كمثله شيء}؛ ففعل ربك يختلف عن فعلك. وإياك أن تخضع فعله لقانون فعلك؛ لأن فعلك يحتاج إلى علاج وإلي زمن يختلف باختلاف طاقتك وباختلاف قدرتك، والله لا يفعل الأشياء بعلاج بحيث تأخذ منه زمنا ولكنه يقول: {كن فيكون}.
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن الإنجاز الذي لا دخل لاختيار البشر في أن يخالفوا فيه فيقول: ساعة يجئ الأمر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك الأمر وأصبح الأمر لله وحده. و{في ظلل من الغمام}. فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به، والشيء الذي يظللك لا يكون لك ولاية عليه في أن يظللك إلا أن ترى أين ظله وتذهب إليه، وشيء آخر تستطيع أنت التصرف فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد. وكلمة {ظلل} معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يصور لنا ذلك قال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ} من الآية [32 سورة لقمان].
أي جاءهم الفزع الأكبر كالظلة محيطًا بهم، فكأن الله يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله وسيأتيك الأمر المفزع، الأمر المفجع، والمؤمن كان يتوقعه، وسيدخل عليه بردًا وسلامًا؛ لأنه ما آمن من أجله، لكن الكافر سيصاب بالفزع الأكبر؛ لأنه فوجئ بشيء لم يكن في حسابه. وقارن بين مجيء الأمر لمن يؤمله، وبين مجيء الأمر لمن لا يؤمله. إن الحق سبحانه وتعالى قال: ساعة تجيء هذه الظلل والملائكة فقد قضى الأمر. وعندما تسمع {قضى الأمر} فاعلم أن المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس، فمن لم يرجع إلى ربه قبل الآن فليست له فرصة أن يرجع. ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} من الآية [44 سورة هود].
أي انتهى كل شيء، ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه. فالله يقول: ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لابد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن تفلت منكم فرصة العودة. {وإلى الله ترجع الأمور}، ومرة تأتي {وإلى الله ترجع الأمور}. وفيه فرق بين {ترجع الأمور} بفتح التاء وبين {تُرجع الأمور} بضم التاء. فكأن الأمور مندفعة بذاتها، ومرة تساق إلى الله. إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لأنه ذاهب إلى الخير الذي ينتظره، أما غير الراغب والذي كان لا يرجو لقاء ربه فسيرجع بالرغم عنه، تأتي قوة أخرى ترجعه، فمن لم يجئ رغبًا يأتي رهبا. اهـ.

.سؤال: فإن قيل: كيف قال: {وإلى الله ترجع الأمور} وهو يدل على أنها كانت إلى غيره، كقولهم: رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟

قلنا: هو خطاب لمن كان يعبد غير الله، وينسب أفعاله إلى سواه.
فأخبرهم أنهم إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره بسبب كفرهم وجهلهم، ولأن رجع يستعمل بمعنى {صار} و{وصل} كقولهم: رجع على من فلان مكروه. ومنه قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه ** يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

ولأنها كانت إليه قبل خلق عبيده، فلما خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم.
ومنه قوله تعالى: {لمن الملك اليوم} وقوله: {الملك يومئذ الحق للرحمن} وإنما قال: {وإلى الله ترجع الأمور}، ولم يقل: وإليه، وإن كان قد سبق ذكره مرة لقصد التفخيم والتعظيم، وذلك ينافى الإيجاز والاختصار. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}.
أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو في هذه الآية قال: يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور والظلمة والماء، فيصوّت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب.
وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال: يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قطعت طاقات.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قوله: {في ظلل من الغمام} قال: هو غير السحاب ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة.
وأخرج ابن جرير والديلمي عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا بالملائكة، وذلك قوله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام}».
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية قال: في قراءة أبي بن كعب {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام} قال: يأتي الملائكة في ظلل من الغمام، وهو كقوله: {يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلًا} [الفرقان: 25].
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة {في ظلل من الغمام} قال: طاقات {والملائكة} قال: الملائكة حوله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال: يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت.
وأخرج عن عكرمة {وقضي الأمر} يقول: قامت الساعة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}.
{هَلْ} لفظه استفهامٌ والمراد به النفي؛ كقوله: الطويل:
وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ** غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ

أي: ما ينظرون، وما أنا، ولذلك وقع بعدها {إلاَّ} كما تقع بعد ما.
و{هَلْ} تأتي على أربعة أوجهٍ:
الأول: بمعنى مَا كهذه الآية، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53].
الثاني: بمعنى قَدْ كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] أي: قد أتى، وقوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} [ص: 21] و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1]، أي: قد أتاك.
والثالث: بمعنى أَلاَ قال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} [طه: 40] أي: أَلاَ أدلكم، ومثله {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} [الشعراء: 22] أي: ألا أنبئكم.
الرابع: بمعنى الاستفهام، قال تعالى: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} [الروم: 40].
و{يَنْظُرون} هنا بمعنى ينتظرون، وهو معدًّى بنفسه، قال امرؤ القيس: الطويل:
فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ** مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ

وليس المراد هنا بالنظر تردد العين؛ لأنَّ المعنى ليس عليه؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى بلى، ويضاف إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه، وليس مضافًا إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فيكون بمعنى الانتظار، وهذا ليس بشيء، أما قوله: إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى بإلى فمسلم، وقوله: وهو هنا متعدٍّ بنفسه ممنوعٌ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو إلى محذوفًا؛ لأنه يطَّرد حذفه مع أَنْ وأَنَّ، إذا لم يكن لبسٌ، وأمَّا قوله: يُضَافُ إلى الوَجْهِ، فممنوعٌ أيضًا، إذ قد جاء مضافًا للذات؛ قال تعالى: {أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} [الغاشية: 17].
والضمير في {يَنْظُرُونَ} عائدٌ على المخاطبين بقوله: {زَلَلْتُمْ} فهو التفاتٌ.
قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} هذا مفعول {يَنْظُرُونَ} وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، أي: ما ينظرون إلا إتيان الله.
والمعنى ما ينظرون، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم.
قوله تعالى: {في ظُلَلٍ} فيه أربعة أوجهٍ:
أحدها: أن يتعلَّق بيأتيهم، والمعنى: يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك، أو يكون كنايةً عن الانتقام، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: هو مفعول يتيهم، أي: في حال كونهم مستقرين في ظلل، وهذا حقيقة.
والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم، أي: أمر الله في حال كونه مستقرًا في ظلل.
الثالث: أن تكون في بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإتيان، أي: إلاَّ أن يأتيهم بظلل؛ ومن مجيء في بمعنى الباء قوله: الطويل:
............ ** خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ

لأنَّ خَبِيرِينَ إنَّما يتعدَّى بالباء؛ كقوله: الطويل:
.....فَإنَّني ** خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ

الرابع: أن يكون حالًا من {المَلاَئِكَةِ} مقدَّمًا عليها ويحكى عن أبيّ، والأصل: إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا- أيضًا- يقلُّ المجاز، فإنه- والحالة هذه- لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم.
وقرأ أُبيّ وقتادة والضَّحاك: {في ظلالٍ} وفيها وجهان:
أحدهما: أنها جمع ظلّ؛ نحو: صلّ وصلال.
والثاني: أنها جمع ظلَّة؛ كقلَّة وقلال، وخلَّة وخلال، إلاَّ أنَّ فعالًا لا ينقاس في فُعلة.
قوله تعالى: {مِنَ الغَمَامِ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل {ظُلَل} التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام.
ومِنْ على هذا للتعبيض.
والثاني: أنه متعلق ب {يَأْتِيهم}، وهي على هذا لابتداء الغاية، أي: من ناحية الغمام.
والجمهور على رفع {المَلاَئِكَةُ}؛ عطفًا على اسم {الله}.
وقرأ الحسن وأبو جعفر: بجرِّ {الملائكةِ} وفيه وجهان:
أحدهما: العطف على {ظُلِلٍ}، أي: إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ، وفي الملائكة.
والثاني: العطف على {الغمامِ} أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصِف الملائكة بكونها ظللًا على التشبيه، وعلى الحقيقة، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة.
قوله: {وقُضِيَ الأمرُ} الجمهور على قُضِيَ فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفًا على {يَأْتيهم} وهو داخل في حيِّز الانتظار، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل، والأصل: ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك؛ لأنه محققٌّ كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] والسبب في اختيار هذا المجاز، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة، وكأنها قد أتت، أو المبالغة في تأكيد وقوعها، كأنها قد وقعت.
والثاني: أن يكون جملة مستأنفة برأسها، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم، فهو من عطف الجمل، وليس داخلًا في حيّز الانتظار.
وقرأ معاذ بن جبل: وَقَضَاء الأَمْرِ قال الزمخشريُّ: عَلَى المصْدَرِ المرفوع؛ عطفًا على الملائكة.
وقال غيره: بالمدِّ والخفض؛ عطفًا على {الملائكة}.
قيل: وتكون على هذا في بمعنى البَاءِ أي: بظُللٍ، وبالملائكة، وبقضاء الأمر، فيكون عن معاذ قراءتان في الملائكة، الرفع والخفض، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله: {وقُضِيَ الأمر}.
ومعنى قضي الأمر؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ، أو نارٍ؛ قال تعالى: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22].
قوله: {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} هذا الجار متعلق بما بعده، وإنما قدِّم للاختصاص، أي: لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره.
وقرأ الجمهور: {تُرْجَعُ} بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعًا قرؤوا ببنائه للفاعل، والباقون ببنائه للمفعول، ورَجَعَ يستعمل متعديًا تارةً، ولازمًا أخرى، وقال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سمع في المتعدي أرجع رباعيًا، وهي لغة ضعيفة، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها.
وقرأ خارجة عن نافع: {يُرْجَعُ} بالتذكير، وببنائه للمفعول؛ لأن تأنيثه مجازي، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول: إمَّا الله تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها.
قال القفَّال رحمه الله: في قوله: {تُرْجَعُ الأُمُورُ} بضم التاء ثلاثة معانٍ.
أحدها: ما ذكرناه، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه.
والثاني: أنه على مذهب العرب، من قولهم فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه ويقول الرجلُ لغيره: إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به.
والثالث: أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم، بأنهم مخلوقون محاسبون، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم، فقوله: {تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي: يردّها العباد إليه، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كقوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: 1] فإن هذا التسبيح بحسب الحال، لا بحسب النطق، وقوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] قيل: المعنى يسجد له المؤمنون طوعًا، ويسجد له الكفَّار كرهًا بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله. اهـ. باختصار.